بعد أن باع أنطونيوس جميع ممتلكاته، قرر أن يبدأ حياة النسك فحذا حذو من سبقوه على هذه الطريق. فهو لم يكن أول من انتهج أسلوب الحياة هذا, إذ كان المتوحد يتدرب على حياة النسك برفقة شيخ متمرس يُشهد له بالفطنة , فيتشبه به و يتعلم منه و يستشيره خاصة لتمييز الأرواح التي تتجاذبه في عزلته.
بدأ أنطونيوس نسكه أمام منزله ثم انتقل خارج البلدة في مكان ليس ببعيد عن الأول.
يسرد لنا القديس أثناسيوس بداياته النسكية على الوجه التالي:
" أصبح محبوبا من الجميع لأنه روّض نفسه على الفضيلة (...) ولما رآه أبناء قريته ومحبّو الصلاح الذين كانوا يجتمعون به,عائشا بهذه الطريقة, سموه حبيب الله. كما أن بعض الناس استقبلوه كابنهم وبعضهم كأخيهم."
تاوفيلس = حبيب الله: هذا اللقب هو الذي أُطلق على إبراهيم، وفي ذلك إشارة من كاتب النص إلى القرابة بين أنطونيوس وإبراهيم. وضع ناسكنا موضع التطبيق كلام إله العهد: " أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك, إلى الأرض التي أريك" (تك 12/ 1). فترك أنطونيوس كل شئ على مثال إبراهيم الذي أطاع.
لكن من الممكن أن نتساءل لماذا يصف أثناسيوس أنطونيوس بـ"حبيب الله"؟ نستطيع القول بأن هذه المرحلة الأولى ارتبطت بما ستقوم عليه حياة أنطونيوس: مقاومة الشيطان أو الصراع مع الروح الشرير. في الواقع لقد حاولت الأرواح الشريرة إثناء ناسكنا الشاب عن عزمه، فكانت تذكّره بكل ما ترك (أخته, أمواله) وحاولت أيضا أن توقظ فيه ملذات الجسد وخاصة الشهوة, لكن أنطونيوس عرف كيف يواجه هذه الهجمات بالصلاة المتواترة والصوم.
يصف أثناسيوس هذه المرحلة الأولى من حياة بطله بـ "الصراع الأول" و قد كان أنطونيوس فيه منتصراً.
5 - لكن الشيطان, عدو الخير, والحسود لم يطق أن يرى في هذا الشاب كل ذلك العزم, فأخذ يقاوم كل ما يصمّم على فعله (...)
6 - ولكونه مخادعا، لم يعد يهجم عن طريق الأفكار الشريرة, بل عن طريق صوت بشري (...) وعندما سأله أنطونيوس: من أنت يا من يقف بقربي ويقول هذه الأقوال؟ عندئذ أخرج أصواتا محزنة وقال: (...) أنا من أزعجتك مرات عديدة, لكنك كنت تنتصر عليّ فيها جميعاً. أما أنطونيوس فشكر الرب وواجه الشيطان بشجاعة قائلاً له: أنت تستحق كل احتقار, أنت مظلم العقل وعديم القوة مثل ولد صغير. لن أهتم بك فيما بعد، لأن "الرب عون لي, وأنا أزدري بأعدائي" (مزمور 117: 8). عندما سمع ذلك المظلم هذه الأمور هرب بأصوات مخنوقة من الخوف غير متجاسر على الاقتراب من الرجل.
7 - هذا هو صراع أنطونيوس الأول ضد الشيطان, بل أن هذا الانتصار هو انتصار المخلص في أنطونيوس." في هذه المرحلة الأولى يروي لنا أثناسيوس أن بطله أنطونيوس كان يعمل بيديه بعد أن سمع قول بولس: "من لا يريد أن يعمل لا يحق له أن يأكل" (2 تس 3: 10). في هذه المرحلة التي نستطيع أن نطلق عليها اسم الابتداء، يبين أثناسيوس أهمية العمل اليدوي وذلك حتى لا يشعر المبتدئ بالملل أو يكون عنده وقت فراغ. لكن الأهمية الكبرى تتلخص في ألا يكون المبتدئ عرضة للأفكار المقلقة. نلمس ذلك بوضوح في القول الأول من أقوال أنطونيوس:
"فيما كان أبّا أنطونيوس ساكنا في البرية انتابه الملل والضجر والأفكار القاتمة فقال لله: "يا رب أريد أن أخلص ولكن الأفكار لا تتركني, فما العمل في ضيقي؟ كيف أخلص؟" . وبعد قليل قام ليخرج, فرأى رجلا مثله, جالسا يعمل في ضفر الحبال, ثم ينهض من عمله ليصلي ثم يعود ويضفر من جديد, ثم يعود للصلاة. وكان هذا ملاك الرب أرسله لإرشاده ووقايته. ثم سمع أنطونيوس الملاك يقول: "اعمل هكذا فتخلص". فلما سمع هذا الكلام فرح جدا وتشجع, وعمل بما سمع
|